هي أم المؤمنين ، هند بنت أبي أمية
حذيفة بن المغيرة المخزومية القرشية المشهورة
بكنيتها أم سلمة ،
والدها سيّد من سادات قريشٍ المعدودين ،
... وكان بين الناس مشهوراً بالكرم وشدّة السخاء
حتى لُقّب بـ : " زادُ الراكب "
، إذ كان يمنع من يرافقه في سفره أن يتزوّد
لرحلته ويكفيه مؤونة ذلك .
وهي بنت عم خالد بن الوليد رضي الله عنه ،
وبنت عم أبي جهل بن هشام .
كانت أم سلمة رضي الله عنها من الجيل الأوّل
الذي أسلم مبكّرا في مكة ، ونالت في ذلك ما
ناله المؤمنون
من صنوف الأذى وألوان العذاب ، حتى أذن الله
للمؤمنين بالهجرة الأولى إلى الحبشة ، لتنطلق
هي وزوجها
عبد الله بن عبد الأسد المخزومي مهاجريْن في سبيل
الله ، فارّين بدينهم من أذى قريشٍ واضطهادها
، محتمين
بحمى النجاشي الملك العادل .
ولما أرادت تلك الأسرة أن تهاجر إلى المدينة ،
واجهت الكثير من المصاعب والابتلاءات ، فقد
تسامع قومها
بنو المغيرة بتأهّبها وزوجها للرحيل فقالوا لزوجها
: " هذه نفسك غلبْتنا عليها ، فعلام
نتركك تأخذ
أم سلمة وتسافر بها ؟ " ، فنزعوا خطام
البعير من يده وأخذوها منه ، فغضب لذلك بنو
عبد الأسد قوم زوجها
وقالوا : " والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها
من صاحبنا " ، فتجاذبوا الولد بينهم حتى
خلعوا يده ،
وانطلق به بنو عبد الأسد ، وظلّت أم سلمة
عند بني المغيرة وانطلق الزوج مهاجراً لوحده .
وهكذا تفرّق شمل الأسرة ، وابتليت بلاءً عظيماً
، فالزوج هاجر إلى المدينة ، والزوجة عند
أهلها في مكة ،
والولد مع أهل أبيه ، مما كان له عظيم الأثر
على نفس أم سلمة رضي الله عنها ، فكانت
تخرج كل يوم
إلى بطحاء مكة تبكي ، وتتألم لما أصابها ،
وظلّت على حالها قرابة سنة ، حتى مرّ بها
رجل من قومها
وهي تبكي ، فرحمها ورقّ لحالها ، فانطلق إلى قومه
قائلاً لهم : " ألا تطلقون سبيل هذه المسكينة ؟
فإنكم فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها "
، فأجابوه لذلك وقالوا لها :
" الحقي بزوجك إن شئت " .
ولما سمع بنو عبد الأسد ذلك ردّوا عليها ولدها
، فانطلقت من فورها إلى مكة ، تقول أم سلمة
رضي الله عنها
واصفةً رحلتها : " فجهّزت راحلتي ، ووضعت ابني
في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة ،
وما معي
أحد من خلق الله ، حتى إذا كنت بالتنعيم –
موضع من مكة - لقيت عثمان بن طلحة -
وكان يومئذٍ مشركاً -
، فقال لي : إلى أين ؟ ، قلت : أريد زوجي بالمدينة
، فقال : هل معك أحد ؟ ، فقلت : لا والله ،
ما معي إلا الله وابني هذا ، فأخذته النخوة فقال
: والله لا أتركك ، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي
يقودني ،
فوالله ما صحبت رجلاً من العرب أكرم منه ، كان
إذا نزل المنزل أناخ بي ثم تنحّى إلى شجرة
فاضطجع تحتها ،
فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فجهّزه
ثم استأخر عني وقال : اركبي ، فإذا ركبت
واستويت على بعيري
أتى فأخذ بخطامه فقادني ، فلم يزل يصنع
ذلك حتى أقدمني المدينة " .
وفي غزوة أحد أُصيب زوجها بجرح عميق ،
وبعد شهور تُوفي رضي الله عنه متأثراً بجرحه
، وهذا ابتلاء آخر يصيب
أم سلمة ، بعد رحيل زوجها من الدنيا تاركاً
وراءه أربعة من الأولاد هم: برة وسلمة ،
وعمر، ودرة ، فأشفق
عليها صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو بكرالصديق - رضي الله عنه- فخطبها ،
إلا أنها لم تقبل ، وصبرت مع أبنائها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفكر
في أمر تلك المرأة الكريمة ، المؤمنة الصادقة
، الوفية الصابرة ،
فتقدم لها وتزوجها مكافأة ومواساة لها ،
ورعاية لأبنائها .
تقول أم سلمة رضي الله عنها :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما
أمره الله { إنا لله وإنا إليه راجعون }
اللهم أجرني في مصيبتي
وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها
، فلما مات أبو سلمة قلت : أي المسلمين
خير من أبي سلمة ؟
أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
، ثم إني قلتها ، فأخلف الله لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،
قالت: أرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له ، فقلت:
إني كبيرة السنّ ،
وأنا غيور-أي تغار من ضرائرها من النساء
- وذات عيال ، فقال صلى الله عليه وسلم :
أنا أكبر منك ، وأما الغيرة فيذهبها الله
عز وجل، وأما العيال فإلى الله ورسوله ) رواه مسلم ،
فتزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال
سنة أربع من الهجرة.
وقد أخذت أم سلمة حظّاً وافراً من أنوار
النبوّة وعلومها ، حتى غدت ممن يُشار إليها
بالبنان فقها وعلماً ،
بل كان الصحابة يفدون إليها ويستفتونها في
العديد من المسائل ، ويحتكمون إليها عند الاختلاف ،
ومن ذلك أن أبا هريرة وبن عباس اختلفا في عدة
المتوفى عنها زوجها إذا وضعت حملها ، فقال
أبو هريرة : لها أن تتزوج ،
وقال ابن عباس : بل تعتدّ أبعد الأجلين ، فبعثوا
إلى أم سلمة فقضت بصحّة رأي أبي هريرة
رضي الله عنهم.
وكانت- رضي الله عنها- من النساء العاقلات
الناضجات ، يشهد لهذا ما حدث يوم الحديبية ،
بعد كتابة الصلح ،
حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
بالتحلل من نسكهم ، وحثّهم على النحر ثم الحلق
، فشقّ ذلك على الصحابة الكرام ،
ولم يفعلوا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على أم سلمة مغضباً ، فذكر لها ما كان من
أمر المسلمين وإعراضهم عن أمره ،
ففطنت - رضي الله عنها –إلى سبب إعراضهم
وعدم امتثالهم ، فقالت للنبي صلى
الله عليه وسلم : يا رسول الله أتحب
أن يمتثلوا لأمرك ؟ ، اخرج فلا تكلم أحداً
منهم كلمة حتى تنحر بدنتك وتدعو حالقك فيحلقك
، فقام وخرج ، ولم يكلم أحداً حتى
نحر بدنته ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس
ذلك قاموا فنحروا فجعل بعضهم يحلق بعضاً ،
قال الإمام ابن حجر :
" وإشارتها على النبي صلى الله عليه وسلم يوم
الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها " .
وفي شهر ذي القعدة من العام التاسع والخمسين
للهجرة أسلمت روحها الطاهرة إلى خالقها ،
وكانت قد بلغت من العمر أربعاً وثمانين سنة
، حين بلغها مقتَلُ الحسين ، فوجَمَت لذلك ،
وحَزِنَت عليه كثيراً ، و غُشيَ عليها ، ولم تلَبث
بعدهُ إلا يَسيراً ، فكانت آخر أمهات المؤمنين موتاً ،
فرضي الله عنها ، وعن جميع
أمهات المؤمنين